لوحة شعراء كلاسيكيون على شاطئ

لوحة شعراء كلاسيكيون على شاطئ

شعراء كلاسيكيون على شاطئ مقمر في اليونان القديمة للفنان الروسي ايفان ايفازوفسكي، 1886


الفكرة الرئيسية المهيمنة على فنّ ايفان ايفازوفسكي إجمالا هي صراع الإنسان مع الطبيعة والعناصر. لكن في أوقات الحروب كان يرسم مشاهد عسكرية. وكان معجبا كثيرا بالقصص البطولية التي كان يسمعها عن اليونانيين وعن حروب الماضي.
ومن وقت لآخر، كان ايفازوفسكي يتناول في أعماله موضوع الشعراء العظام من العالم الكلاسيكيّ القديم ومن العصور المتأخّرة مثل دانتي وبايرون وبوشكين.
وقد تحدّث بعض مؤرّخي الفنّ عن الأسباب التي يمكن أن تدفع رسّاما كبيرا عُرف عنه شغفه الكبير برسم المناظر البحرية لأن يصوّر رجال فكر وأدب. ولوحاته المخصّصة للشعراء الكلاسيكيين تمثّل برأي البعض فصلا غريبا وغامضا في سيرة حياته.
وإحداها هي هذه اللوحة التي تتمتّع بألوانها الجذلة وبمقدرتها الغريبة على ملامسة المشاعر. وربّما لهذا السبب أصبحت من أعظم انجازات هذا الرسّام التي أكسبته إعجاب واعتراف النقّاد والجمهور.
المعروف أن ايفازوفسكي رسم الشاعر الروسيّ الكبير الكسندر بوشكين عندما تقابل الاثنان في أكاديمية الفنون بسانت بطرسبورغ.
وفي ما بعد وجدت أفكار الرسّام عن معنى الحياة ووظيفة الفنّ شكلها المناسب في لوحته المسمّاة "دانتي يشرح لفنّان منظرا لغيوم غير مألوفة".
ثم رسم ايفازوفسكي لوحة أخرى يصوّر فيها الشاعر الانجليزيّ اللورد بايرون أثناء زيارته لأحد الأديرة المشهورة في جزيرة سانت لاتزارو في فينيسيا. وهذه اللوحة كانت، بمعنى ما، تذكيرا بالقضيّة الأرمنية، كون ايفازوفسكي نفسه ينحدر من أصول أرمنيّة.
وهناك لوحة أخرى له اسمها "زواج شاعر في اليونان القديمة".
وكلّ هذه اللوحات الأربع متساوية تقريبا في الحجم وجميعها تستحضر الأجواء الرعوية التي تذكّر بأركاديا.
ورغم هذا التشابه في ما بينها، إلا انه يصعب التأكّد ممّا إذا كان الفنّان قد رسمها بناءً على تكليف من أشخاص ما، أم أنها كانت من بنات أفكاره أو ثمرة لمخيّلته هو.
وأيّا ما كان الأمر، فإن هذه اللوحة بالذات تحتلّ مكانة بارزة في سلسلة رسوماته عن الأزمنة القديمة. وهذا التصوير لمنظر ليليّ هادئ على شاطئ باليونان يتميّز بجماله وحميميّته.
والرسّام هنا، وعلى عكس ما عليه الحال في اللوحات الأخرى، لا يقدّم للناظر صورة لمعابد قديمة. وبالكاد تستطيع رؤية أشجار الغار المخصّصة للفائزين في المسابقة الشعرية المفترضة.
الوجه الشاعريّ لليونان القديمة يتألّف من سمات فنّية مختلفة. هناك مثلا القمر الذي يرتفع فوق البحر وسط طبقة من السحب المظلمة التي تطلّ بصمت وجلال على سطح الماء الساكن الذي يشبه مرآة.
هنا يوصل الفنّان صورة عن غموض الليل وقدرته على إخفاء العالم المنظور، والارتباط الغامض بين جمال ضوء القمر وألوان السماء الليلية الشاحبة وجمال ألوان البحر. البحر والصخور المستحمّة في ضوء القمر الشبحيّ تستدعي الإحساس الرومانسيّ باتساع الأرض وبمظاهر المتعة التي تملؤها.
ومن الواضح أن الرسّام اشتغل كثيرا على رسم القمر، وتبدو براعته بأجلى ما يكون في إيصاله تأثيرات ضوء القمر على السحب والأمواج التي تلامس سطح الماء.
وقد وزّع وهج ضوء القمر بفرشاة ساطعة وإيقاعية تشبه الومضات الذهبية مع ألوان أنيقة وباردة قوامها البنّي والأزرق. الماء والضوء والهواء تمتزج جميعها لتصبح عنصرا واحدا. والسماء تخبر الناظر بالتفصيل عن الوقت من اليوم وعن حالات الجوّ والمزاج.
هذا المحيط الجوّي بتيّاراته وغيومه يلتحم مع القمر الذي يضيء الماء. وهذه هي المنطقة التي تتبدّى فيها براعة الرسّام في أوضح صورها.
كان من عادة ايفازوفسكي أن يضع أبطاله في صوره وهم جالسون أو واقفون على الصخور بجانب الماء، وكان هذا أهمّ أساليبه الفعّالة في تصوير روعة المناظر الليلية وإضفاء قوّة تعبيرية عليها.
وبين تلك الأسطح المظلمة نرى الشعراء في مقدّمة هذا المنظر وهم منهمكون في حواراتهم. وخلفهم هناك توليف طبقيّ من السماء والبحر ينفتح بفعل ضوء القمر المطلّ من علوّه الشفّاف.
كان ايفازوفسكي كثيرا ما يقارن إبداعه بالشعر، وقد قال ذات مرّة إن موضوع الصورة يأتي إلى مخيّلته كما يأتي موضوع القصيدة إلى عقل الشاعر.
لكن يبدو أن موضوع هذه الصورة، أي الأدب والشعر، يتراجع إلى الخلفية. وما يظهر للعيان حقّا هو هذا المشهد بعمومه والذي يبدو أشبه ما يكون بقصيدة متناغمة من الألوان والأضواء.
الجدير بالذكر انه كان من بين أصدقاء ايفازوفسكي الكاتب نيكولاي غوغول والرسّام الكسندر ايفانوف والموسيقيّ ميخائيل غلينكا صاحب المقطوعة المشهورة "رسلان ولودميلا".
من جهته كان الروائيّ الكبير دستويفسكي معجبا كثيرا برسومات ايفازوفسكي، وقد أطلق عليه وصف "المعلّم الذي لا ينافَس في رسم عواصف البحر ذات الجمال الأبديّ والأخّاذ"

المصدر : مدونة لوحات عالمية

إرسال تعليق

0 تعليقات