الفنان الأسباني سلفادور دالي

الفنان الأسباني سلفادور دالي

 نشأته وحياته


الاســــــــــــم / سلفادور فيليب خاسنتو دالي 
تاريخ الميلاد / 11 مايو 1904 
مكان الميلاد / فيغيراس ـ كاتالونيا في أسبانيا
تاريخ الوفاة / 23 يناير 1989 ( 84 عام )
مكان الوفاة / فيغيراس ـ كاتالونيا في أسبانيا 
والـــــــــــــده / سلفادور كوزي / محامي وكاتب عدل
والـــــــــــدته / فيلبا دومينش فيرا
سبب الوفــاة / فشل في عمل القلب 
المــــــــــهنة / رسام سريالي 
عــدد لوحاته / أكثر من 1500 لوحة 
الحالة الإجتماعية / متزوج من جالا دالي "إيلينا ديماكونوفا"
اســــم اخــيه / سلفادور 
اســــــم اخته / آنا ماري ( الفت كتاب " دالي كما تراه اخته " )

مولده

ولد سلفادور دالي بتاريخ 11 مايو (أيار) من عام 1904 في بلدة فيغيراس الصغيرة التابعة لمقاطعة قشتالة والواقعة على مسافة 30 كيلو متراً من بلدة كاداكيس المطلة على البحر الأبيض المتوسط، والتي استوحى من سمائها الزرقاء الصافية خلفيات معظم لوحاته. وأسوة بالرسام الهولندي الشهير فان جوخ فقد أطلق على سلفادور دالي اسم شقيق له كان قد توفي عام 1901م أي قبل ولادته بثلاث سنوات ، ويقول سلفادرو دالي في ذلك: " لقد كنت بنظر والدي نصف شخص ، أو بديل، وكانت روحي تعتصر ألماً وغضباً من جراء نظرات الليزر التي كانت تثقبني بدون توقف بحثاً عن الآخر الذي كان قد غاب عن الوجود‍‍". كما قال أيضا "كان الوالدان لا يتحدثان سوى عن سلفادور دالي المتوفي فقط وليس عني على الاطلاق وأصبحت كالمجنون من هذا الكابوس ، ومن أن أصبح كجزء من جسد وروح سلفادور المتوفي ، وأضحى الأمر بالنسبة لي كضرورة حياتية في أن أبرهن لكافة الناس بأنني أنا سلفادور دالي الحقيقي ".


 سلفادور دالي طفلا


ومهما يكن من أمر فقد عاش الصغير سلفادور دالي مرفهّا بين أسرة ثرية ، وكان والداه يوفران له كل مطالبه . ونتيجة لدلاله المبالغ فيه فقد عُرف عنه سلوكه الطائش الذي انعكس على أعمال بعيدة عن المعقول، كدفعه صديقه عن حافة عالية كادت تقتله، أو رفسه رأس شقيقته " آنا ماريا " ، أو تعذيب هرّه حتى الموت، واجداً في أعماله متعة كبيرة، كالتي كان يشعر بها حين يعذب نفسه. ولعل هذه التصرفات التي أوردها الفنان في مذكراته شكلت الشرارة النفسية الأولى للمذهب الفني الذي اختاره للوحاته.

وقد ساهم أحد جيرانه وهو رامون بيشوت في إيلاجه بعالم الرسم، ففي السابعة من عمره رسم أولى لوحاته، واستطاع في مدرسته أن يلفت النظر إلى رسومه التي تنبأت له بمستقبل فنان بارع، ما دفع بعائلته وأساتذته إلى حثه على دخول كلية الفنون الجميلة في سان فيرناندو .
كان دالي ينتظر عطلة الصيف، والإجازات الطويلة لأسرته في كاداكيس ليغتنم الفرصة ويرسم لوحاته الأولى متأثراً بمدرسة الانطباعيين. وإلى جانب الرسم كان سلفادور دالي منذ نعومة أظافره يقرأ كتب سبينوسا، وكنط، كما لاقى الكثير من المديح والإطراء عندما أقام أول معرض للوحاته في بلدة فيغيراس.

 بداية دراسته لـ الفنون الجميلة 


بتشجيع من الرسام رامون أرسله والده لتلقي الدروس الفنية لدى أستاذ الرسم السنيور نوينر في فيجو براس . كان نونير أستاذا يوحي بالود ومرحا للغاية فأهتم كثيراً بسلفادور مؤمنا بأن مستقبلاً فنياً زاهراً ينتظره دون شك . حفز سلفادور تشجيع واهتمام الأستاذ بأعماله فقرر دراسة اللوحات الشهيرة لاكتشاف فن من الجاذبية فيها ، وبدأ خلال فتره دراسته بالاهتمام بالمطالعة وبالأخص المؤلفات الفلسفية لنيتشه وفولتار وكآنت الذي قرأ وأعاد قراءة مؤلفاته مرات عده دون أن يتمكن من فهم نظريات هذا الفيلسوف ، قرأ كذلك مؤلفات سبينوزا وصمم على توجيه اهتمامه الكامل إلى أعمال الفيلسوف ديكارت الذي استند على أفكاره في رسم عده لوحات رائعة. شيئا فشيئا بدأت لوحات سلفادور تجذب انتباه النقاد والهواة والفنانين وبدأ يتلقى دعوات لعرض لوحاته في المدن المجاورة لفيجو براس ، أكمل خلال ذلك دراسته في مدرسة الأدب المريميين رغم أن معظم أساتذته في هذه المدرسة كانوا عاجزين عن تعليمه أي شئ.
في عام 1922 رافقه والده وشقيقته آنا ماريا إلى مدريد لدراسة الفنون الجميلة. وقد كتب في مذكراته آنذاك بأنني" قد أكون موضع استهتار، أو تجاهل، أو عدم فهم، ولكنني سأكون عبقرياً، بل وعبقرياً فذّاً‍‍".
كان دخوله إلى أكاديمية الفنون الجميلة يخضع لامتحان قبول هو عبارة عن رسم مستوحى من موضوع كلاسيكي وفق مقاييس وقواعد محدده وواضحة . قرر سلفادور إهمال هذه الضوابط تماما فرسم لوحه أخرى اعتبرتها اللجنة كبيرة جدا . وفي يوم تقديم الامتحان الرسمي قدم رسماً كاملاً فنيا من كافة المقاييس فوافقت اللجنة على قبوله تلميذا في الأكاديمية.

حياته في الأكاديمية 

تصرف سلفادور خلال الأشهر الأولى من التحاقه بأكاديمية الفنون الجميلة كتلميذ نموذجي مبتعداً عن المجتمع المحيط به يأنف الاختلاط بأقرانه من التلاميذ .
في كل أحد كان يذهب إلى متحف برادو حيث كان يمضي ساعات طويلة متسمرا أمام لوحات المشاهير وعندما يعود إلى الأكاديمية يرسم رسوما تكعيبية للمواضيع التي شاهدها في هذه اللوحات. وفي ذلك الوقت تعرف على الفن التكعيبي ولكنه ثار على المفاهيم التي يدعو إليها هذ الفن ويدافع عنها واستبدل ألوان قوس قزح في لوحاته بالألوان الأبيض والأسود والأخضر الزيتوني والبني الداكن فكانت ألوانه حزينه ، كما استبدل البنطلون الطويل ببنطلون قصير واستبدل الجوارب بعصابات للساق ملونه وأكمل هذا الزي بمشلح طويل وبقبعة كبيرة من اللباد الأسود ووضع في فمه غليونا فارغا من التبغ .

وفي بيت الطلبة في مدريد نشأت صداقته مع فيديريكو غارثيا لوركا ، و لويس بانيويل ، وشكّل هذا الثلاثي مجموعة طلائعية وجد فيها دالي تجسيداً لمشاعره وانتقل أثناء ذلك من مرحلة الخوف والخجل إلى مرحلة التمرد والمشاكسة .
تحول الحماس الكبير الذي أظهره سلفادور دالي لدى دخوله إلى الأكاديمية إلى خيبة أمل ، حيث شعر بأن الأكاديمية لن تعلمه أي شيء . فعندما كان يطرح على أساتذته أسئلة تدور حول الفن لم يكن يتلقى سوى أجوبه غامضة.
" كنت آمل أن أجد في هذه الأكاديمية حدودا وصلابة وعلما ولكنهم لم يقدموا لي سوى الحرية والكسل والتقديرات العشوائية "
مع ذلك فقد استمر يتصرف كتلميذ نجيب نظامي نموذجي يحترم أساتذته ولا يفوته أي درس أو محاضره.

في أحد الأيام دخل إلى قاعة النحت في الأكاديمية وبدأ يفرغ محتويات أكياس عديدة من الجص في وعاء كبير ويصب فوق الجص ماء غزيراً . ما لبثت أرضية القاعدة وأن غمرت بطبقة من سائل أبيض جلي القوام بدأ ينساب إلى خارج القاعة من تحت الباب حتى وصل السيل إلى قاعة الدخول وبدل من أن يهتم دالي بالأمر شق طريقة نحو المخرج يلتفت إلى الوراء لمشاهده جمال الطبقة الجصية وهي تجف بسرعة.
لم يغب عن اهتمام بعض طلاب أكاديمية الفنون الجميلة التطور الفني والأدبي الذي كانت تشهدها أوروبا وبالأخص المذهب الرادلي في الفنون والآداب الذي سخر من كل القيم المعترف بها . كان الفنانون والأدباء مثل لوبيل بونويل و غارسيا لوركا و بدرو غارفياس و يوجينو مونتير المحركات المحفزه لمجموعة صغيره من الفنانين الأصوليين بالإضافة إليهم سلفادور دالي الذي ما لبث أن أحتل مركزا مرموقا ضمن هذه المجموعة .
كان أعضاء المجموعة يمدحون بحماس لوحات سلفادور التكعيبية التي حوت أفكاره الغريبة ، بعد ذلك بقليل أصبح طريق سلفادور مفروشا بالورد .
بدأ سلفادور يرتاد المقاهي الفنية ويشترك في النقاشات الفكرية الحامية حول الفن والأدب والنساء والجنس، و استبدل ملابسه الغربية بملابس ثمينة وقمصان من حرير ولون وجهه بالمساحيق وصفف شعره وفق النمط السائد آنذاك.

طرد سلفادور من الأكاديمية ومنع من متابعة الدروس فيها لمدة سنة لأنه أنبري يدافع بحرارة عن أحد أساتذته مما أثار غضب إدارة الأكاديمية فعاد إلى فيجويراس وهناك أُلقي القبض عليه بسبب أفكاره الثورية وظل في السجن لمدة شهر ثم أطلق سراحه بعد عدم عثور المحققين على أدله تثبت اشتراكه في إثارة الرأي العام ضد الحاكم الملكي المستبد في أسبانيا.

بعد انقضاء مدة إبعاده عن الدراسة في الأكاديمية في مدريد عاد إليها ليستعيد فوراً شهرته كثائر غير محترم .
في أحد الأيام طُلب منه رسم لوحه للسيده مريم العذراء فصور عتبتين من السلالم وفسر اللوحة لأحد أساتذته الذين أصيبو بالذهول من غرابة هذه اللوحة بقوله : " إني أرى السيدة العذراء بمثابة عتبتين تؤديان إلى الجنة " . في هذه الفترة اجتازت رسوم سلفادور دالي عدة مراحل اختبارية متناقضة .
درس سلفادور المستقبلية الإيطالية وبالأخص المعاملات المستقبلية في تمثيل أشياء متحركة .و في عام 1924م بدأ يهتم بالمدرسة الميتافيزيقية وبمبادئها التي وضعها كل من جيورجيو شبيريكو وكارلوكارا.
تلك الفترة كان لها أثر كبير في حياة دالي، إذ تعرف على المذاهب الفنية كافة والتقى فنانين عالميين مختلفين منهم الشاعر فيديريكو غارسيا لوركا الذي أنجز معه عملاً مسرحياً كان الأول له، ولويس بونييل الذي اختلف معه بسبب آرائه السياسية التي شهدت انقلاباً غريباً من الفكر الثوري إلى البرجوازية الخاضعة لملذات الحياة .
وفي العام 1926 بدأ سلفادور بصقل موهبته واختيار أسلوبه الخاص لا سيما بعدما تعرف على أب المدرسة التكعيبية بابلو بيكاسو ، ومن ثم بدأ ينظم لقاءات دورية مع رسامين سرياليين آخرين أمثال لويس أراغون و أندريه بريتون . مما ساهم في بلورة أسلوبه وتفوق عليهم جميعاً.

زوجته جالا


كانت جالا فتاة روسية تدعى "إيلينا ديماكونوفا" , جاءت إلى فرنسا بمفردها عام 1913 وهي لم تتجاوز التاسعة عشرة من عمرها. أقامت في مصح للمعالجة من مرض السل , وبعد أربعة أعوام التقت "بول إيلوار" وتزوجت منه ونذرت نفسها له حتى وقعت في غرام الفنان "ماكس أرنست" مع أن إيلوار كتب لها يقول بأنها ستبقى زوجته إلى الأبد .

عندما ارتبطت حياة دالي بحياة جالا في شهر أغسطس من عام 1929 ظهر تأثيرها الواضح عليه وعلى أعماله الفنية, لأنها كانت حريصة على منع تخيلاته المتطرفة في الحياة والفن من أن تصبح حالة مرضية , وهذا الحرص الدائم كان سببا في الجاذبية المتصاعدة والمستمرة بينهما إلى درجة أن دالي كان يوقع على بعض لوحاته باسمه واسم جالا معا.
وكان يكرر فكرته عن ارتباط اسم جالا بالعبقرية, حين يقول: ( إن كل رسام جيد يريد أن يكون مبدعا, وينجز لوحات رائعة, عليه أولا أن يتزوج زوجتي ).


دالي وزوجته جالا



لم تكن جالا مثقفة, لكنها كانت قوية وذكية, تملك حساسية خاصة لتمييز المستويات المختلفة من الشعر والرسم, فكانت رفيقة للمبدعين, تلتقط إشاراتهم وتحرك أوهامهم وتنصحهم أو تشجعهم بأسلوبها الخاص. وهي تحب المال وهذا ما جعلها تدرك الأساليب المثالية لتسويق أعمال دالي, في الوقت الذي كانت فيه تمثل دور الملهمة الغامضة, حيث كانت صورتها حاضرة في أشكال مختلفة.
إذا فالثورة الحقيقية في مسيرة سلفادور دالي جاءت مع ظهور جالا على مسرح حياته ، حيث شكلت بداية انغماسه في النزعة السريالية وقطيعته مع والده كاتب العدل،وصاحب العقلية الرجعية.
لم يكن والد سلفادور ليسمع له على الإطلاق بأن يخرج ابنه مع تلك " المدام" المتزوجة "العديمة الحياء"، ولذلك فقد تدخل الوالد في القضية وحرم سلفادور دالي من الميراث.
بعد أشهر قليلة فقط جاءت النقطة التي جعلت كيل الوالد يطفح فقد تسببت إحدى لوحاته التي عرضها سلفادور دالي في معرض جيومانس في باريس بتفجير فضيحة كبرى- وهي لوحة القلب المقدس- حيث عرضها إلى جانب أربعة لوحات متميزة في تلك المرحلة منها لوحة "لعبة الحداد" و "المستحلم الأكبر" التي كتب فيها فوق منظر لقلب المسيح عبارة "أبصق على لوحة والدتي ‍‍".

استشاط والد دالي غضباً وطرده من المنزل، وكتب رسالة إلى صديق دالي بونيويل يقول فيها : ليس باستطاعتي أن أسبب له ألماً روحياً لأنه هوى إلى قاع الرذيلة، ولكن أستطيع أن أسبب له ألماً جسدياً لأنه ما زال من لحم ودم ‍‍‍‍‍‍‍‍!

في باريس كتب دالي إلى جانب بونيويل سيناريو فيلم " كلب أندلسي" ذو المشهد الشهير الذي يجري فيه قطع عين بموسى الحلاقة. وفي باريس أيضاً تعرّف دالي على بيكاسو الذي كان موقع إعجابه، كما تعرف عن طريق جوان ميرو على المجموعة السريالية وعلى الشاعر أندريه بريتون الذي كان قد نظم في عام 1924 "البيان الأول" الذي يعتبر بمثابة الرسالة التأسيسية للسريالية.

رفضت فنادق كاداكيس استقبال سلفادور دالا وجالا نتيجة لضغط والده وتهديده لهم مما اضطر دالي إلى بناء عش المحبة في بلدة بورت ليجات مقابل خليج سيروس . كان الحي بلا خدمات إنارة أو مياه. وكان أحد الأحياء النائية والمنعزلة والتي يقطنها عشرات الصيادين البؤساء ، ومع ذلك فقد حوّله دالي إلى مركز ومعقل لعالمه الخاص وأخذ يوسّع داره كلما تحسّن وضعه المادي.

كانت جالا قبل علاقتها بسلفادور دالي مرتبطة بعلاقات غرام مع العديد من الفنانين المشهورين أمثال ماكس إرنست و مان راي.
تحولت مع الوقت إلى مديرة علاقات سلفادور العامة والمسؤولة عن تسويق "منتجات دالي". وبدوره فقد كان دالي يتعلّم كيفية استغلال فضائحه واستفزازاته في مشاريع تجارية مربحة.
يعتقد الكثيرون بأن تأثير جالا قد أنقذ دالي من الجنون، ولكنه حكم عليه في الوقت نفسه بالاستمرار على المسرح بصورة متواصلة، وأثر على روحية وجوهر حياته وفنّه.

رحلته الى امريكا

كان دالي يتحول تدريجياً إلى راية ودليل للسريالية، وبعد حقبة الثلاثينات توجه إلى نيويورك حيث كانت شهرته قد ذاعت وكثر المعجبون بفنه.
ولم يتأخر في اكتشاف عالم الأغنياء والأرستقراطيين في المدينة، ويقول في ذلك: "لقد كانت الشيكات تنهمر كالإسهال!. "
إزاء تلك الشخصية المشاكسة بدون حدود أصيب بريتون بالإتخام وقرّر طرد دالي من المدرسة السريالية بحجة ولعه الشديد بالمال وميوله نحو هتلر، وما لبث أن ألف من حروف اسم دالي كلمة avida Dollarsأي جشع الدولارات. غير أن دالي لم يتأخر في الرد حيث قال له: ليس بإمكانك طردي، فالسريالية هي أنا بالذات!

في عام 1932 شارك في أول معرض سريالي في الولايات المتحدة الأميركية، حيث بدأت تتجلى الرمزية في أسلوبه، ونال حينها سيلاً وافياً من المديح والإعجاب من قبل القيمين على المعرض والزائرين على السواء.
وبعد هذه المرحلة الناجحة بدأت على التوالي تظهر لوحاته التي كتبت شهرته، والتي دفعت بفرويد إلى القول: "لم أرَ في حياتي نموذجا لأسباني أعظم كمالا من دالي".
عاش سلفادور دالي في الولايات المتحدة الأمريكية منذ عام 1940 ولغاية عام 1948. وعاصر أحداث الحرب العالمية الثانية ، وهناك قام بتصميم العديد من الواجهات الشهيرة، ومجموعات الحلي، والملابس، وخشبات المسارح، بل واتفق مع والت ديزني على مشروع فيلم لم ينتقل إطلاقاً إلى حيز التنفيذ.
في عام 1948 عاد الفنان دالي إلى فيغيراس وإلى بيته في بورت إليجات وكانت عودته هذه المرة عودة الابن البار حيث تصالح مع والده.
وانطلاقاً من إعجابه المعلن بالرسامين الكلاسيكيين أمثال فيلاسكيس ورافائيل وفيرمير انطلق نحو ما سماه " الفن الكلاسيكي الديني" ورسم بعدها " مادونا بورت ليجات" وهي عبارة عن عذراء بوجه جالا، ثم مسيح سان خوان دي لا كروس.

مواقف من حياته


كان وجه دالي ينضج بالنبوغ وأظهر منذ صغره علامات العبقرية المبكرة المنذرة بالسوء ، وله نظرته تشوبها لمسه من الكآبة العميقة التي يتميز بها كل من يتمتع بذكاء لا يمكن الانتصار عليه .
بدأ سلفادور يتلقى دروسه في المدرسة الإبتدائية المحلية ثم أكمل التعليم في معهد الآباء المريميين . لم يسجل في دروسه نجاحات تذكر مما كان يثير غضب والدايه ولكنهما يمتنعان عن تأنيبه لكونه الابن المدلل.
كان يحب أن يخالف ما كان يفعله أقرانه والآخرون وكان يمضي ساعات طويلة في تصميم أعمال منافية للتقاليد المتعارف عليها لكي يدهش زملاءه في المدرسة ، و معظم هذه الأعمال أعمالا شيطانية تقسم بالعفة .

في أحد الأيام عندما كان دالي يتنزه مع أحد أصدقاءه فوق أحد الجسور دفعه على حين غره من على الجسر فهوى صديقه فوق صخره تقع تحت الجسر من علو خمسه أمتار وأكمل طريقه وكأن شيئا لم يحدث وأمضى فتره بعد الظهر جالسا على مقعد هزاز في منزل صديقه يشاهد أوعية الماء الملطخة بالدماء التي كانت والدة الفتى تخرجها من غرفه ابنها .

وفي مره أخرى رفس شقيقته وكان عمرها آنذاك ثلاث سنوات بقدمه على رأسها وسبب له هذا العمل على حد وصفه متعه عظيمة .
في أحد الأيام أعطاه أحد الأصدقاء وطواطا جريحا أخذه وخبأه في مكان مظلم في غرفة في مغسلة للثياب قريبة من منزله وفي الصباح التالي وجد الوطواط على وشك الموت وقد أحاطت به ألوف من النمل ، تأثر جدا بهذا المنظر الكئيب فأخذ الوطواط بين يديه وعضه عضه أودت بحياته ثم رماه جانبا .

يتمتع دالي برمي نفسه من على السلالم بصورة لايمكن تفسيرها ولا يأبه للألم الذي يسببه تدحرجه على السلالم ؛ لأنه كان يجد لذة لا توصف في إيذاء نفسه.
اعتاد على تكرار رمي نفسه أمام أصدقاءه وأقرانه في المدرسة ويتلذذ بمرأى وجوههم وقد اكتساها الخوف والقلق .
دخل في أحد الأيام بنقاش مع أحد اقرانه حول أفضليه الرسم على الموسيقى - وكان صديقه يعزف على الكمان - فانزع سلفادور الكمان من بين يديه وحطمه شر تحطيمه .


دالي مع والدهـ

أستأجر والد سلفادور مغسلة ملابس قديمة ليستعملها ابنه الفنان كمحترف له . اعتاد في الأيام شديدة الحرارة أن يخلع ملابسه ليغطس في حوض مملوء بالماء ويمارس هواية الرسم لساعات طويلة من هنا.
علّق في داخل هذا المحترف وعلى جدرانه الرسوم التي رسمها على أغطية علبه حفظ القبعات التي يجلبها من مخزن خالته ، كما علق أيضا لوحات استنسخها عن لوحات الرسامين المشهورين في عصر النهضة والتي كانت تنشر في المحلات الفنية المتخصصة.
أعجبته حياه الوحدة وكان يجد عذرا ليقنع والده بإبقاءه في مغسلة الثياب ليرسم بدل اعادته للمنزل.
عاش دالي في هذا المحترف المنعزل مع أوهامه المذهلة ، وقال في هذا الصدد في مذكراته
[ إذا كنت تقوم بدور العبقري فسوف تصبح عبقري في يوم من الأيام ]
عانا دالي دائما من هذيان الأنانية وحب الذات بصورة مبالغ فيها .
أكتشف والداه موهبته الفنية وقررا ارساله إلى أحد أصدقاء والده في الريف الأسباني لتلقي مبادئ فن الرسم على يديه . كان هذا الصديق ثريا وخبيرا في اللوحات ورساما انطباعيا موهوبا ، وفي الواقع كان أفراد عائلتة فنانين موهوبين أيضا ً.

عاش سلفادور في كنف هذه العائلة في قصرها الريفي " طاحونة البرج" حيث أثرت هذه الاقامة في قصر رامون على الحياة اللاحقه للفنان ، استلهم سلفادور من نمط الحياة هناك مواضيع عدد كبير من لوحات الإثارة الخيالية التي رسمها في حياته .
قال في مذكراته: [عندما كان عمري ثلاث سنوات أردت أن اصبح طاهياً وعندما بلغت السادسة أردت أن أصبح نابليون بونابرت ومنذ ذلك الحين لم يتوقف طموحي عن الازدياد والنمو]
رغم أن تشغيل الطاحونة وأحجار الرحى فيها لم يثر اهتمام سلفادور؛ فقد ترك البوح بالذات تأثيرا كبيرا على خياله الجامح و أصبح البرج مكانا مقدسا له يحتل مركز عالمه . اعتاد على تناول طعامه في غرفة زينت جدرانها برسوم الفنان الانطباعي رامون بيتشو.

كانت هذه الخلائط البصرية لسلفادور الصغير مصدرا لا حدود له بلإنجذاب ولم يمضى وقت طويل حتى بدأ سلفادور يشعر بأنه عليه أن يأخذ بعين الاعتبار طبيعة هذه الطريقة الجديدة المثيرة .
 [ كان ذلك أول اتصال لي مع نظرية منافية للتقاليد الأكاديمية وتوريه على النطاق الجمالي] ، خصص له الرسام رامون غرفه واسعة مطلية بالجبس الأبيض ليستخدمها سلفادور كمحترف له ، في هذا المحترف بدأ يستكشف خفايا الضوئية الآنية التي وجدها جذابة للأنظار في لوحاته يدفعه في ذلك إبداع محموم .

في أحد الأيام بعد أن استخدم كل الأقمشة الموجودة لديه في المحترف قرر أن يرسم على باب خشبي قديم نخره السوس - الموضوع الذي كان يقيض مضجعه منذ بعض الوقت - رسم على هذا الباب طبيعة جامدة مع كومه من الكرز ، أصر في هذه اللوحة على استخدام ثلاثة ألوان فقط بعضها على اللوحة مباشرة بعد أن إخراجها من الأنبوب ، جمع كمية محترمة من حبوب الكرز بمثابة موديل وبدأ يرسم على خشب الباب فلاحظ وهو يرسم بأن كل حبة تتكون من ثلاث تدرجات لونية : الأحمر القاني والأحمر الفاتح والأبيض ، أنغمس في رسم حبات الكرز بحيث نسي أن يصور ذيول الحبات
[ فجأة خطرت لي فكرة . أخذت قبضة من حبات الكرز وبدأت التهامها . أخذت ذيول الحبات والصقتها على اللوحة في المتوقع المناسب ومن أجل التشديد على واقعية الرسم أخذت ديدان حقيقة في الثقوب المنخورة في الباب]
دهشت الرسام رامون كانت فضيعة بعد أن شاهد الباب وزاد إعجابه بالفن المتميز لسفادور ، مارس خلاله إقامته لدى الرسام دامون .

أحتفظ بعصا للاستناد عليها وهو يسير متشبها بالنبلاء الذين كانوا يسيرون في الحقول وبأيديهم عكازات مزخرفة بالأحجار الكريمة للمباهات . رافقته هذه العصا واستخدمها كموضوع مسيطر في لوحاته في وقت لاحق . صمم عصا لها عده وجوه محفورة في أعلاها ، [ لكي تحملها النساء الجميلات كي يشعرن بجاذبية الشبق المحفور في لحم وجوههن]

بتشجيع من الرسام رامون أرسله والده لتلقي الدروس الفنية لدى أستاذ الرسم السنيور نوينر في فيجو براس . كان نونير استاذا يوحي بالود ومرحا للغاية فأهتم كثيرا بسلفادور مؤمنا بأن مستقبلا فنيا زاهرا ينتظره دون شك .
حفز سلفادور تشجيع واهتمام الأستاذ بأعماله فقرر دراسة اللوحات الشهيرة لاكتشاف فن الجاذبية فيها . وبدأ خلال فتره دراسته بالاهتمام بالمطالعة وبالأخص المؤلفات الفلسفية لنيتشه وفولتار وكانت الذي قرأ وأعاد قراءة مؤلفاته مرات عده دون أن يتمكن من فهم نظريات هذا الفيلسوف قرأ مؤلفات سبينوزا وصمم على توجيه اهتمامه الكامل إلى أعمال الفيلسوف ديكارت الذي استند على أفكاره في رسم عده لوحات رائعة.

في عام 1934م أقيم أول معرض مهم للفنانين السرياليين خارج فرنسا وكان ذلك في الولايات المتحدة ، في نفس العام أقيم معرض للوحات دالي في برشلونه وآخر في بروكسيل . في يونيو عام 1936م أقيم معرض دولي ضخم في لندن نظم لاو لاندبنروز بالتعاون مع جماعات من الفنانين السرياليين الفرنسيين والبلجيكيين عرض فيه لوحات ورسوم وملصقات وتماثيل ومؤلفات أدبية وأعمال من الفن الأفريقي ورسوم أطفال ، عرض دالي في هذا المعرض اثنتي عشرة لوحة .
خلال حفل الافتتاح ظهر دالي مرتديا لباس الغطاسين وعندما سأله أحدهم إلى أي مدى يصل عمق غطسته أجاب بإنها تصل إلى نقطة اللاوعي وأستقطب هذا المعرض اهتمام عامة الناس وهواة جمع اللوحات وبيعت معظم الأشياء التي عرضت فيه.

في عام 1937م رسم دالي لوحة annibal ismedautomne ظهر فيها رجل يقوم بإذابة نفسه وتنتشر المادة المذابة على طاولة صغيرة قريبة ويحمل بيده سكينا وشوكه ليأكل جسده المذاب . تعتبر هذه اللوحة إحدى أروع اللوحات التي رسمها دالي لم يستخدم الأشكال لترجمة رغبات الأنسانية كما اعتاد أن يفعل بل أستخدم لحم الإنسان.

قال عنه فرويد [ لم أرى في حياتي نموذجا لأسباني أعظم كمالا من دالي ياله من متعصب ] . أدعى دالي فيما بعد أن حكم فرويد على الحركة السريالية كان بمثابة حكم بالإعدام عليها . انطلاقا من تلك اللحظة لم يعد يرد موضوع التجارب والاختبار بل أصبح الأمر يتعلق بالتقاليد والولادة من يديه ، أشترى نصير دالي الهاوي إدوار جيمس العديد من لوحاته خلال تلك الفترة ودعاه إلى قضاء بعض الوقت في منزله ضيفا عليه .
أظهر القليل من الفنانين كرها واحتقارا للآلات مثل كره واحتقار دالي الشديد والذي عبر عنه في لوحاته فأظهرها مشوهة بأقصى درجة فالسيارات التي ظهرت في لوحاته كانت في أوضاع لا تساعد أبدا على تشغيلها . رسم في إحدى لوحاته صوره سيارة حبلى للتعبير عن كرهه الشديد للإنتاج بالجملة المتبع في المصانع الكبيرة .
خلال إقامة دالي في إنجلترا ضيفا على إدوار جيمس أكتشف دالي لوحات جماعة من الرسامين سبقوا رافائيل في التعرف على أولى إشارات الهذيان ، تمثلت هذه الإشارات بالمواضيع الأدبية والرمزية المتقدمة المدمجة مع اهتمام شديد بالتفاصيل وهي صفات تتماثل مع المميزات الشخصية لسلفادور.

بين عام 1937 م وعام 1939م قام دالي بثلاث رحلات إلى إيطاليا . وجد روما الكاثوليكية وقد دمرتها التجديدات الحديثة التي أمر موسوليني بها .
كذلك زار إدوار جيمس في مدينة أمالفي وهناك وجد الإيحاء الذي كان يبحث عنه لتحقيق مشروع بالية واغنر.
دفعته أزمة ميونيخ إلى زيارة مونتي كارلو حيث رسم لوحة " لغز هتلر" .
في عام 1939م زار الولايات المتحدة مجددا لتنظيم معرض للوحاته في غاليري جوليان ليفي ، كانت شهرة دالي قد سبقته إلى تلك البلاد بفضل معرضيه السابقين . في رحلته تلك طلب من صاحب أحد المتاجر الكبرى في نيويورك زخرفة وتزيين واجهات المتجر على أن يكون موضوع الديكور " الليل والنهار".

الأساليب الصلفة التي لجأ إليها دالي لتحقيق الشهرة العالمية كتأييده لحكم فوايكو في أسبانيا دفعت الفنانين السرياليين إلى أتخاذ قرار جماعي بإهماله وعدم اعتباره أحد الفنانين السرياليين.
أحدثت احتمالات نشوب الحرب العالمية الثانية هدنة مؤقتة بين دالي ومعارضية . تعمق دالي خلال تلك المدة في دراسته الجمالية واعاد توثيق علاقاته بالتقاليد الفنية الإيطالية .
أثارت النسبة الأطية التي اسماها " أفلاطون " الرقم الذهبي أهتمامة وطبق هذا المبدأ في لوحته حيث تقطع الخطوط القطرية الدقيقة للوحة إلى أربع مثلثات متساوية ، ترك دالي هنا نفسه لتنقاد تماما لتوجيهات ضميره في محاولة للاقتراب من المثالية الأفلاطونية .
تطلب ميله الجديد للكلاسيكية موضوعية أكثر ودراسة لفنون الرسم في عصر النهضة ، فأهتم بقوة بالهندسة والرياضيات وعلم التشريح والمنظورية قدر أهتمامه القديم بالإيحاء من اللاوعي وهكذا بني لوحته aeda .تعني هذه اللوحة لدالي [ التكامل والتركيب ونشأة الكون والإيمان ]كما قال في مذكراته .
في نفس الوقت ، طور دالي إيمانا متزايدا بالمراتب الكهنوتية الكاثوليكية وبالنظم الملكية ، فليس من العجيب إذا عرفنا أنه طلب في أحد الأيام الحصول على موافقة البابا لرسم إحدى لوحاته وأعلن بوضوح أن أماله في المستقبل بالدعوة إلى نهضة دينية جديدة على أساس مبادي كاثوليكية متطورة.

وفاته

مقابل شواطئ البحر الأبيض المتوسط قضى دالي بقية أيام حياته ، وظل هناك لما بعد وفاة قرينته جالا عام 1982.
وفي عام ۱۹۸۳ رسم سلفادور دالي آخر لوحاته بعنوان "ذنب السنونوة" وكان قد قارب الثمانين عاما .
وفي عام 1984 احترق دالي في غرفته ضمن ظروف مريبة ، ولكنه لم يمت وإنما عاش خمس سنوات تالية ، ثم صدرت عنه لفتة كريمة جداً قبل أن يموت ، فقد أهدى كل ثروته ولوحاته للدولة الأسبانية أي لبلده الأصلي الذي كان قد غادره منذ حوالي السبعين سنة ، وهكذا عاد دالي إلى جذوره.
بعد ذلك أخذ دالي يذوي رويداً رويداً ، وأخذ ذلك الاستفزازي الذي كان يواجه الموت يحتضر تدريجياً حيث كانت أنابيب الاكسجين ترافقه ليل نهار إلى أن ودّع هذا العالم عام 1989 عن عمر يناهز 84 عاماً.

لقد ودعنا جسد دالي تاركاً شارة استفهام ضخمة حول حجم الإرث الذي خلّفه على هامش القائمة الكبيرة من الفضائح التي أصبحت حسب قوله تشكل جزء من التراث الشعبي. ويقول النقاد بأنه ليس بإمكان أحد أن ينكر ملكة الرسم الخارقة التي كان يتمتع بها دالي كما وليس بإمكان أحد أن يتجاهل قيمة لوحاته العظيمة وخصوصاً في مرحلة السريالية الأولية، أما المرحلة التي تحول فيها إلى "رجل أعمال" فيرى الكثيرون بأنها أثرت على طبيعة فنه وعلى نزاهة وعفة أعماله.

وعلى هامش ما قيل وما سيقال فإن ذلك الفنان العظيم ذو النظرة الجنونية العميقة، والشاربين الصلبين المعقوفين، والذي تمكن من إلغاء الحدود بين الروح المشاكسة الهائجة والاستعراضية الفاضحة قد تحوّل دون شك إلى "أسطورة أبدية" ومع كل نظرة إلى لوحاته العظيمة تشعر الروح بأنها اكتسبت جناحين، وتحتفل المخيلة بولادة وانطلاقة جديدة.

إرسال تعليق

0 تعليقات