ليـدا اتـوميكـا
للفنان الاسباني سلفادور دالي، 1949
لم يكن هناك شيء عاديّ في شخصية سلفادور دالي أو في أعماله أو في أسلوب حياته. لذا لم يكن مستغربا أن تعكس لوحاته طبيعته الغريبة.
كانت زوجته غالا مصدر إلهام كبير له. وعندما يستحضرها كان يصنع أعمالا متسامية. وقد قال انه عندما رسم هذه اللوحة إنما أراد من خلالها أن يمجّدها.
كان أيضا متأثّرا بفنّ وميثولوجيا وتاريخ اليونان. ويقال أنه رسم صورة لهيلين أميرة طروادة قبل بلوغه سنّ العاشرة. وتتضمّن أعماله العديد من الإشارات الميثولوجية.
موضوع هذه اللوحة استلهمه الرسّام من الأسطورة الكلاسيكية المشهورة عن ليدا ابنة ملك اتوليا. وتحكي الأسطورة أن زيوس، كبير آلهة اليونان القديمة، وقع في حبّ ليدا. وعندما تمنّعت عليه حوّل نفسه إلى إوزّة ثمّ نام معها وأحبلها.
قصّة ليدا والإوزّة ظلّت دائما تتمتّع بالرواج والشعبية طوال تاريخ الفنّ. غير أن دالي حوّلها إلى قصّة داخلية عن الجمال والإغراء.
وقد بدأ رسم هذه اللوحة في الولايات المتحدة، ويصوّر فيها زوجته وملهمته غالا على أنها ليدا. وتبدو وهي تجلس عارية على قاعدة تمثال بينما تداعب بيدها اليسرى إوزّة وتقترب منها كي تقبّلها.
الكتب والفقاعات الفضّية تتطاير في الجوار وحول ليدا مثل الالكترونات حول النواة، وطبعا كلّ هذه الأشياء لا علاقة لها بالأسطورة الأصلية.
وحول ليدا، المرسومة داخل شكل فيثاغورسي ثمانيّ الأضلاع، هناك أشياء أخرى مثل كتاب ومربّع، بالإضافة إلى بيضة ترمز إلى ثمرة الاتحاد بين ليدا والإوزّة التي وُلد منها توأمان.
كانت البيضة احد موتيفات دالي المفضّلة، وهو يربطها بالنسل والذرّية والوالدين، ويستخدمها رمزا للحبّ والأمل.
وفي الخلفية تظهر صخور كيب نورفو في إشارة إلى مسقط رأس دالي.
كلّ شيء في اللوحة مرسوم بحرص لكي يكون ساكنا في الفراغ، رغم عدم وجود ما يربط هذه الأشياء منطقيّا ببعضها البعض.
الشاعر الانجليزي وليام بتلر ييتس كان قد وصف في إحدى قصائده المشهورة قصّة اللقاء الغريب بين زيوس وليدا. وكانت هذه الأسطورة مشهورة وشائعة في القرن السادس عشر.
والمفارقة أنه في ذلك الوقت كان مقبولا أن تُرسم صورة لامرأة في فعل جماع مع إوزّة، بينما كان محظورا تصويرها على تلك الحال مع رجل.
بعض معاصري دالي كانوا يرون أن توظيف الرياضيات، كما فعل في هذه اللوحة، يسيء إلى العمل الفنّي ويعطّل الإبداع. لكن دالي كان يرى أن أيّ عمل فنّي يجب أن يرتكز على التوليف والحساب.
وفي تناوله للقصّة، من الواضح انه تعامل مع الحبّ بطريقة أكثر روحانية ممّا تعامل به أكثر الرسّامين الآخرين الذين ركّزوا في تصويرهم لهذه الأسطورة على الجانب الجسديّ لاتحاد زيوس وليدا كما فعل ميكيل انجيلو ونيكولا بُوسان.
في اللوحة كلّ شيء تقريبا أثيريّ وليست هناك ملامسة من أيّ نوع، بل وحتى البحر لا يلامس الأرض. ونفس هذه السمة يمكن أن نراها في بعض لوحات الرسّام الأخرى، إذ يظهر فيها الأشخاص وهم في حالة ارتقاء وسموّ.
ويقال أن دالي كان يرى تماهياً مع شخصيات اللوحة، فزوجته غالا هي هيلين التي كان جمالها عظيما لدرجة انه أدّى إلى إشعال حرب بين الإغريق وأهل طروادة. وأحد التوأمين كان شقيقه الميّت، بينما شقيقته هي كليتمنسترا.
ولأنه كان كاثوليكيّا، فقد فتح هذا المجال لتفسيرات أخرى، منها مثلا أن في اللوحة إشارة إلى حمل العذراء بابنها وبأنه نفخة من الروح القدس. وربّما أراد أن يقول انه يحبّ غالا مثلما أحبّ الله العذراء.
افتتان دالي بالعلم يظهر في العديد من أعماله التي أنجزها خلال وبعد الحرب العالمية الثانية. وممّا يؤثر عنه انه قال ذات مرّة: في الفترة السوريالية أردت أن اخلق رسومات ايقونية عن العالم الداخليّ؛ عالم الدهشة، عالم والدي الروحيّ فرويد. واليوم فإن العالم الخارجيّ، أي عالم الفيزياء، تجاوز علم النفس، ووالدي اليوم هو الدكتور آيزنبيرغ".
وكان دالي يقصد العالم ويرنر آيزنبيرغ الذي تحدّث في نظرياته عن مبدأ اللا يقين. ومع هذا التغيير ظهر اهتمام الرسّام بالدين، ثم صاغ على إثره مصطلحه "الغموض النوويّ".
ومنذ ذلك الوقت أصبح دالي يهتمّ بالعلم والتكنولوجيا. والكثير من لوحاته التي رسمها آنذاك تصوّر مفهوم أن كلّ شيء هو في حالة تعليق وطفوّ من خلال تنافر البروتونات والالكترونات.
كما كان أيضا مفتونا بالحالة العابرة للعقل ما بين النوم واليقظة، ما بين الحلم والواقع، وما بين العقل والجنون، معتبرا أنها الحالة التي يعمل فيها العقل بصفاء، دون أن تعطّله قيود المنطق ومقتضيات السلوكيات الاجتماعية.
أثناء رسم دالي لهذه اللوحة، اخذ له المصوّر الفوتوغرافيّ المشهور فيليب هالسمان لقطة لا تُنسى اسماها "دالي اوتوميكوس"، صوّر فيها الهستيريا والسوريالية التي كان دالي من أنصارهما.
المعروف أن دالي كان مفتونا بكلّ شيء باذخ ومذهّب، وكان يعشق الرفاهية والملابس الشرقية. ولطالما ردّد أن عائلة أمّه ذات جذور يهودية وأن أسلافه كانوا من العرب.
كان واسع الخيال ويتصرّف بطريقة غريبة كي يجذب الانتباه إلى نفسه، وهذا كان يسعد محبّي فنّه، لكنه كان يضايق النقّاد.
0 تعليقات