لوحة ضفـائـر هيـلغـا
هذه اللوحة هي واحدة من أكثر من مائتي لوحة رسمها اندرو وايت لجارته المهاجرة الألمانية هيلغا نيستورف. وقد رسم اللوحات على امتداد خمسة عشر عاما وسجّل فيها الحالات والتغيّرات المزاجية للمرأة وكذلك تغيّرات الزمن وتعاقب الفصول.
وقد أبقى الرسّام على هذه اللوحات سرّا دون أن يكشف أمرها لأحد، حتّى لزوجته، إلى أن قرّر إخراجها إلى العلن في منتصف ثمانينات القرن الماضي.
ووجدت وسائل الإعلام وقتها في الصور مادّة للإثارة والجدل، وظهر بعضها متصدّرا أغلفة بعض المجلات الكبرى مثل التايم والنيوزويك. كما تحدّث عنها النقاد ووجد فيها عامّة الناس مادّة خصبة للحديث عن المال والشهرة والعلاقات العاطفية.
صور هيلغا التي يشبّهها البعض بالرسوم الإيضاحية أسهمت في شهرة الرسّام وذيوع اسمه. في بعض هذه اللوحات، تبدو المرأة عارية وأحيانا بالقليل من الملابس. ويمكن وصف اللوحات بأنها دراسة جميلة ومتعمّقة في عقل وجسد امرأة واحدة. وقد طافت معظم المتاحف والغاليريهات الأمريكية كما عُرضت في بعض متاحف اليابان.
في هذه اللوحة التي يقال إنها احد أعظم انجازات الرسّام، يركّز وايت على محاولة إبراز جمال الشَعر الإنساني كما تمثّله ضفائر المرأة. ومن الواضح انه عمل كثيرا على التفاصيل كما وظف براعته الفنّية في إبراز تأثيرات الضوء والظلّ.
في اللوحة تبدو هيلغا وهي تشيح بوجهها عن الرسّام والناظر وتتأمّل طبيعة بعيدة.
وعندما تتمعّن في اللوحة عن قرب ستلاحظ أن الفنّان رسم كلّ شعرة بتفصيل غريب ولم يغفل حتى تلك الشعيرات المتناثرة فوق سترتها.
يقال إن الفنان وهو يرسم هذه الصور تعمّد أن يخفي هويّة المرأة فرسم بشرتها بألوان غامقة كما غيّر لون شعرها وأحيانا حوّر ملامحها بحيث تبدو بمظهر نساء شمال أوربا أو النساء الهنديّات.
وقد بيعت مجموعة اللوحات هذه في ما بعد إلى رجال أعمال يابانيين باعوها بدورهم إلى مستثمرين أمريكيين بأكثر من مائة مليون دولار أمريكي.
عندما نُشرت اللوحات لأوّل مرّة، كان بعضها مصحوبا بملاحظات سجّلها الفنان عن وضعية جلوس أو استلقاء المرأة وعن تأثيرات الضوء والظلّ المنعكسة على جسدها أو على جدران ومحتويات الغرفة.
بعض هذه اللوحات تتضمّن مشاعر معقّدة وغامضة وأحيانا قاتمة. في إحداها يظهر جسد المرأة العاري وقد غمره شلال من الخطوط البيضاء المضيئة، وإلى جوارها كتب الرسّام ملاحظة تقول: كنت اشعر بالريف، بالمنزل، بألمانيا، بقطرات الندى الحالمة، برائحة الأنثى وبكلّ هذه الأشياء معا”.
عبقرية اندرو وايت وجاذبيّته تتّضح في قدرته على أن يمزج مناظره بتذكّر التجارب الشعورية والعاطفية التي تتحدّث بعمق إلى الآخرين.
وممّا يؤثر عنه قوله ذات مرّة: لو استطعت بطريقة ما قبل أن أغادر هذه الأرض أن امزج بين حرّيتي وحماسي المجنون وبين الحقيقة، عندها أكون قد فعلت شيئا ما”.
عناوين اللوحات توحي أحيانا بالعلاقة الحميمة التي تربط الرسّام بالمرأة الموديل.
كما يمكن أن تكون اللوحات انعكاسا لهاجس الفنان بالوصول إلى الصورة المثالية والكاملة.
بعض صور المرأة فيها إحساس بأنها أسيرة ومحبطة وبأن لا حياة لها خارج دورها كموديل للرسّام. في النهاية، هي مجرّد جسد جميل. والرسّام يبدو مهتمّا بلا حدود بتصوير ملامحها وأطرافها وخصلات شعرها الأشقر. لكنه نادرا ما يسمح لها بالنظر إلى المتفرّج.
وفي معظم اللوحات تنظر المرأة جانبيا أو تحدّق في الفراغ أو تعطي ظهرها للناظر. كما تبدو أحيانا مستمتعة بأفكارها وتأمّلاتها. ويصحّ القول إن اللوحات تصوّر بعض جوانب العزلة الأمريكية المزعجة وبحث الإنسان عن معنى للحياة.
كان والد وايت رسّاما هو الآخر. لكن بخلاف والده الذي كان يرسم الشخصيات الأدبية المشهورة، كان وايت الابن منجذبا إلى رسم الشخصيات العامّة والطبيعة. وقد أصبح في ما بعد احد أهمّ الرسّامين الأمريكيين.
وهو مشهور بمناظره التي تصوّر المزارع والعمّال والطبيعة والمنازل المتربة. كما عُرف عنه براعته في تصوير المناظر الريفية والبيوت التي يبدو فيها الطلاء متقشّرا والخشب متآكلا.
بعض النقّاد يعتبر وايت رسّاما واقعيا ومحافظا. والبعض الآخر يرى أن الكثير من رسوماته تحمل سمات حداثية من حيث الشكل والمضمون.
وبعض لوحاته الأخرى توفّر نافذة على عالمه الرمزي والروحي. ومثال ذلك لوحته المشهورة “عالم كريستينا” التي أصبحت إحدى ايقونات الفنّ الأمريكي المعاصر.
توفي اندرو وايت في السادس عشر من يناير عام 2009 بينما كان نائما في بيته في فيلادلفيا عن عمر ناهز التسعين.
للكاتبة لطيفة الدوسري
0 تعليقات